Accéder au contenu principal

طوب و حجارة

 


رسم : إيمان الميموني

----------------

حينما كنا أطفالا -أنا و أبناء أعمامي- كان يحلو لنا التحلق بجدي حين يشده الحنين إلى بيته القديم، نجلس حوله مترقبين كلماته التي لا نكل من تكرارها، و خيال كل منا يبني البيت طوبة طوبة. باب حديدي أحمر اللون، حديقة صغيرة بها أشجار زيتون و ليمون مثقلة بالثمار، و مدخل يأخذك لصالة رحبة طالما اجتمع بها الأحباب. كان لنا جميعا أحلام تضم ذاك البيت، نخطط لاسترجاعه من المستوطنين و نوزع الغرف بيننا كأننا بلغنا الباب و فتحناه. و كان جدي في نهاية كلامه يخرج المفتاح الحديدي من طيات ثوبه و يشهره في وجهنا و نحن ننظر إليه بإعجاب منقطع النظير. 

بعد سنوات، أصيب جدي بالزهايمر، و عادت به ذاكرته إلى بيته القديم، يستيقظ من نومه كل صباح و يبدأ بالصراخ لأنه ليس مستلقيا على سريره، لأن الشرفة لا تطل على زيتوناته، لأنه لا يرى الغروب من نافذة المطبخ. ينام كل ليلة و جفناه مثقلان بالدموع بعد شرح أمي لكل شيء، بعد إقناعه أن بيته ليس بيته الآن، أن مستوطنا من شيكاغو يشرب الشاي في قدحه و يلمس حيطانه بأصابعه البيضاء. بعد أسابيع من التكرار قررت العائلة إخباره بأننا في عطلة، بأننا عائدون إلى البيت قريبا. أراح هذا قلبه قليلا، و أعاد لنا الجلسات معه، يخبرنا عن كل حجر وضعه بيديه، عن كل طوبة قبلها و هو يبني مأوى له و لأطفاله.
مات جدي و هو مؤمن أنه عائد لا محالة، أنه خرج من بيته طوع إرادته و سيعود إليه وقتما يحلو له. 
مات جدي و ترك لي المفتاح.
.
الحياة في بلد مغتصب لها أوجه عدة من الصعب ذكرها كلها، مرة تحس بالفخر لانتمائك لشعب لا يستسلم، لكنك أيضا تشعر بالحنق لأنك و شعبك ضحايا عدوان لا ينتهي. أحيانا يغلبك الحنين لماض لم تره، ماض رسمته لك حكاوي الجدات و صور رمادية معلقة على حيطان المخيم. و تمضي من الوقت الكثير في الرثاء، ترثي أحبابا واريتهم التراب، وأحبابا رحلوا قبل أن تراهم. الذاكرة في فلسطين جماعية، مثل كومة ركام يرمي كل شخص فيها ما يشتاق إليه، ما يؤرق نومه و ما يمنحه من الأمل بصيصا ضئيلا. فتجد نفسك تحزن لنفسك و لجيرانك و أصدقائك و كل من يشاركك الحمل، و تشتاق معهم لكل شيء و للجميع. 
لكن أسوء شعور و أكثرها ألما هو القهر.
.
.
نزحت من بيتي بعد وفاة جدي بعشرين سنة، و نزحت من بيت والدي قبلها بخمس سنوات. أمشي على طول الشارع محاطة بأوجه مألوفة، أحمل بيدي المفاتيح الثلاثة. 
.
.
كم مفتاحا سأحمل قبل أن يبدأ فتح الأبواب؟

مروة ظمآن

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

غصة، شوق و حنين

  بمشية متحاملة، مهلهل الثياب، يقصد كرسيه الإسمنتي وسط حديقة الحي ليجلس كما العادة -ساعات طويلة- و هو مطرق رأسه لا يتحرك، محدقا في الفراغ، شاردا في اللاشيء أو بالأحرى في كل شيء ، يتذكر كل ثانية عاشها مع ابنيه.  ترتسم له المشاهد كضرب من الواقع، كجزء من الحقيقة و ليس مجرد ذكرى مشوشة، فتتجلى أمامه اللحظة الأولى، النفس الأول المتبوع بصراخ ابنيه اللذان يقبلان لهذه الدنيا فيصرخ هو شاكرا ربه أن رزقه سندا فيها، مستبشرا بأن يكونا له العضد و العوض، إلى اللحظة التي بدآ فيها المشي، يستوقفانه ليرفعهما إلى الأعلى، فيستجيب ضاحكا دون أن يعلم أن من تسلَّقا جذعه ليحملهما فيما مضى، سيتملصان منه دون أن يلمحهما مرة أخرى فيما سيمضي. يكبر الولدان يشتد عودهما و يضعف  الأب لكنه يضاعف رغم التعب ساعات عمله كبناء ليكسب ما قد يبني به مستقبل ابنيه، اذ أنهما قد أضحيا في السنة المدرسية الأخيرة ... "عمي محمد !" انقطع حبل الذكرى عنه، أناديه ثم أتوجه إليه بقدم مضطربة و قلب يخفق بشدة، يمسك صحن الطعام ثم يدعوني كي أرافقه في وجبته.  لم أستطع سوى القبول، جلست في الكرسي المقابل و الصمت بيننا يحول، فقد خشيت الخوض مع

Les morts ne meurent pas mais ils demeurent

  Pourquoi toute cette terre sur son cercueil, elle qui aimait tant respirer l’air de la mer? Sous le voile diphane du vingt-six août, la Mort a tissé sa toile dans tes cheveux, emportant tes rêves. Tu crois te plaindre d’une fatigue, tu crois avoir quelque chose d’anodin et tu tombes. Une pluie d’étoiles blanches partout dans ton poumon, covid-19, c’est ce que le monde dit pour décrire l’indicible. Au début de ta mort, tout est devenu de plus en plus grand, j’ai compris qu’il fallait éviter tout ce qu’on croit savoir à ce sujet, tous les mots convenus sur la douleur et la nécessité de revenir à une vie distraite, de s’entourer de gens et de vivre la misère refoulée en futilités ; j’ai compris que, comme pour la vie, il ne fallait écouter absolument personne et ne parler de la mort que comme on parle de l’amour : avec une voix douce, avec une voix folle, en ne choisissant que des mots faibles accordés à la singularité de cette mort-là, à la folie de cet amour-là. Les mois suivant t
TRIGGER WARNING : SUICIDE, BODY DYSMORPHIA  ليلةَ أمس أصابني أرق شديد منعني من النوم حتى السادسة صباحاً ومن شدة بؤسي أني سمعت أصوات العصافير النشيطة قبل نومي، الثانية عشر ظهراً يرِنُّ المنبه للمرة المئة وأنا مُتظاهرٌ أني لا أريدُ سماعهُ، أنظرُ له بنصف عين ثم أعود إلى غفوتي، أخيراً أيقظني الجوع من السبات، نظرتُ إلى الخزانة لا يوجدُ أي لباسٍ مرتب، ألم أرتب خزانتي من قبل؟ نظرتُ إلى نفسي في المرآة، فشعرت ببعض القبح، ما هذه السمنة المفرطة؟ لماذا شكلي هكذا؟ تباً للجينات التي أحملها، الثانية بعد الظهر متوجهٌ إلى أقرب مطعم من أجل الإفطار، الثالثة بعد الظهر عدت إلى المنزل بعد جولة في شوارع المدينة شعرت فيها بالازدراء حيث كانت نظراتُ الناس لي غريبة، ومن شدة الانزعاج اخذت علبة السجائر بدأت بالتدخين بشكل مفرط، الخامسة عصراً، لدي إختبار في نهاية الأسبوع لكن الدروس كثيرة والأستاذ دائماً ما يطلب مني أن أحلق شعري المجعد، الدرسُ الأول عنوانهُ غريب، للأسف نسيت القهوة تغلي، هذه الحياة ليست لي، الخامسة وربع بعد تنظيف المكان من القهوة المحروقة، يطرق أبي الباب فتحتُ له أحضر لي بعض الطعام وأخبرني