زارته الكلمات قبل أشعة الشمس.
لا يزال مستلقيًا على نفس السرير، تكاد تجزم أنه فارق الحياة في نومه، غير أن حركات معطفه المعلَّق على جانب السرير، تباعًا لكل شهيق، كانت تُثبت عكس ذلك.
فتح عينيه وانتظر بضع ثوانٍ حتى يرى النور يتسلل عبر الخزانة، ليدرك أنه فصل جديد، أو كما يحب أن يسميه منذ أسابيع: الرقصة الأخيرة.
شقةٌ تتوسّل الانفصال.
يتجوّل فيها قليلًا وكأنه يودّع ما تبقّى ويحزن على ما غادر. كانت بالأمس القريب ملتقى للحكايات والنكات، وها هي الآن بالكاد تهمس بما تبقّى من صدى الأصوات. ألقى معطفه فوق كتفه، فزاده ثِقَلًا، ثم حمل عكازه وغادر دون أن يلتفت، ولو لثانية واحدة من الحنين.
أمام المأوى لا يختلف المشهد كثيرًا؛
رصيفٌ لا تقبله حتى الزبالة، ومنازل تهمس لبعضها عن قساوة ما يسكنها.
خطواته متثاقلة، يبطئها ضعف الجسد وتثقلها قوة الهموم.
يعرف طريقه جيدًا، يتوقف أمام المقهى — مُرغمًا تارة، ومُغرَمًا تارةً أخرى.
كان يحب الشطرنج؛ لعلّه يرى في قطعه بقايا الفرسان الذين كانهم يومًا ما.
غادر جلّ أصدقائه المقهى… والحيّ ربما؟ كل ما يعلمه أن من تبقّى بدأ يتآكل بالنسيان.
لم يقضِ سوى بضع دقائق جالسًا.
استأذن بهدوء كي لا يحتسي اليوم أي شيء؛ يريد أن يرحل فارغًا كما وُلِد.
الساعة تشير إلى الواحدة زوالًا.
كان قد أنهى ما تبقّى له من رسائل ووصايا، ونسي أن يُطعم القطط هذا اليوم.
اعتادت أن تجتمع حوله كل صباح، تنتظره وهو ينحني دون أن تحكم على نواياه. وكان يحبها، لأنها المخلوق الوحيد الذي ذكّره بأنه ما زال قادرًا على العطاء.
وقف أمام باب المقبرة.
أشار للبواب بيده، فبدا وكأنه استجاب لإيحاءٍ صامت.
جلس أمام القبر واستجمع ما تبقّى له من طاقة، قبل أن يلامس التراب.
مراده بات على وشك الاكتمال.
إزداد المكان سواداً و لكنه لم يتأثر بهذا التغيير المفاجئ بل أن حركاته توحي بأنه كان ينتظر قدوم هذا الظلام، سقطت كل الحروف التي كانت تُعرّف القبور و حلّت مكانها تواريخ و أرقام، وسط هذا التحول ظل من جديد صامدا، إكتفى بتحريك معطفه مخافة أن تحمله الرياح التي لتوّها صارت عاتية، مشهد ترتعش له الأبدان، ثمن الخلاص لن يكون هيّناً.
تعالى صوتٌ خافت يعاتبه على هذه الحركة، وكأنه يرفض هذا الإزعاج.
اعتذر بخجل، وعرّف بنفسه وهو يربّت على التراب من جديد.
قال له الصوت إنه يعلم جيدًا سبب الزيارة:
إنها تذكرة الموت.
سيُطلب منه إقناع الروح العالقة بالعودة إلى الحياة، فذلك كفيل بتخليصه من عالم الأحياء؛ راحة أبدية، ولا معطف يشغل باله من جديد.
تجاوز أولى المراحل، ولعلها الأسهل.
أزال معطفه واستلقى إلى جانب القبر، وبدأ يحدّث الروح العالقة؛ فهي سبيله الوحيد.
الأرواح أنهت حياتها، واكتظّت بها العوالم، فما عادت تستقبل من قضوا عقودًا بين الأزقّة.
كان يعلم أن من يغادر طوعًا إلى دار البقاء هو أكثر من أحب الحياة، وأن محاولته تلك ليست رفضًا لها، بل تشبّثًا بها حتى آخر رمق.
تلك الفكرة كانت عماده الأكبر في رحلته نحو السلام.
بين دموعٍ سقت تراب الراحل، وغضبٍ زعزع الورود الملقاة، حاول كل ما استطاع كي يعيده ثم يرحل.
لكن لا شيء يعود كما كان.
استنفد كل ما في داخله من حماس وسعادة، حتى إذا ما داهمه اليأس، أحس بيد البواب تلامس كتفه، تشير له نحو باب المغادرة.
لم يتردد هذه المرة، وكأنه تقبّل هزيمته دون لومٍ أو عتاب، نفض الغبار عن ما إستطاع أن يصله من جسده ثم تأهب ليعود أدراجه.
نفس المعطف، ونفس العكاز.
ورقة صغيرة كتب على ظهرها: التذكرة رقم 21.
تذكرة الموت التي لم يأبَ قطارها الانطلاق.
خطوات أشد قسوة، ومعطف أثقل من الذاكرة، وعكاز ينتظر المرة القادمة.
فهل تكون التذكرة الثانية والعشرون رقم حظّه؟
أم أنه سيعيش ما يكفي ليتذكّر أنه نسي إطعام القطط؟
نص : لمنور يونس
رسم : سلمى شكيل

Commentaires
Enregistrer un commentaire